الريع تحت المجهر: حين يعلن لفتيت نهاية زمن الامتيازات

هيئة التحرير6 نوفمبر 2025آخر تحديث :
الريع تحت المجهر: حين يعلن لفتيت نهاية زمن الامتيازات

 

في لحظة بدت وكأنها فاصلة في مسار العلاقة بين الدولة والمجتمع، صعد وزير الداخلية عبد الوافي لفتيت إلى منبر البرلمان لا ليقدّم أرقاماً تقنية ضمن مشروع ميزانية وزارته، بل ليطلق ما يشبه البيان رقم واحد ضد الريع والفساد.
كان خطابه صريحاً، قاطعاً، لا مكان فيه للالتباس ولا للغة الخشب التي اعتادها الرأي العام في مثل هذه المناسبات. بلهجة عامية مباشرة، قال الوزير ما لم يقله مسؤول قبله بهذه الحدة:

“اللي دا شي درهم ولا شي أرض، يردها بالخاطر ولا غانوصلو معاه لخزيت… يردها آمين ولا بزز، وحنا بدّينا بكازا”.

كلمات بسيطة، لكنها محمّلة بثقل تاريخٍ طويل من التواطؤ والصمت والفساد المقنّن. فأن يقول وزير الداخلية، من تحت قبة البرلمان، إن الدولة بدأت بالفعل استرجاع ما نُهب من المال العام، وأنها “بدأت من الدار البيضاء وستصل إلى كل جهة”، فهذا إعلان رسمي بانتهاء مرحلة الإفلات من العقاب.

لم يكن الخطاب، كما يرى مراقبون، مجرد انفعال عابر، بل تحوّلاً في فلسفة تدبير الشأن العام، حيث تضع الدولة اليوم يدها على ملف طالما ظلّ مسكوتاً عنه: ملف “الريع” بكل أشكاله — من العقارات الممنوحة بغير وجه حق، إلى الامتيازات التي تحوّلت إلى ملكيات خاصة، إلى المشاريع التي أُنجزت على الورق فقط.

ولم يتوقف الوزير عند فضح ناهبي المال العام، بل وجّه سهامه إلى المتسترين والمتواطئين، قائلاً إن “المنتخب الذي لا يرفع الدعوى أو يتفاهم مع من اختلس، شريك في الجريمة”، في إشارة واضحة إلى أن زمن التسامح مع الفساد السياسي قد ولّى.

بهذا الموقف الجريء، يُعيد لفتيت رسم حدود جديدة للعلاقة بين الدولة والمال العام، علاقة قائمة على المساءلة لا المحاباة، وعلى ردّ الحقوق لا تبرير ضياعها.
إنها رسالة مزدوجة: إلى الفاسدين بأن الملف فُتح ولن يُغلق، وإلى المواطنين بأن الثقة تُبنى من جديد، ولكن بثمن الصدق والحزم.

قد تكون هذه أول مرة يتحدث فيها وزير الداخلية بلغة “الشعب” لا بلغة البروتوكول، لكنها أيضاً المرة التي فهم فيها الجميع أن الدولة تغيّرت نبرتها لأنها قررت أخيراً أن تُغيّر واقعها.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق